الهجرة وتطبيق النبي لعلم التخطيط
اولا معذرةعلى الاطالة با الكلام
ثانيا إن كان هناك اي معلومات غير صحيحة أرجو التوضيح
وشكرا صلاح حافظ
إن خطة الهجرة النبوية كانت بدون شك مستكملةً لكل أركان الخطة الحديثة، من الهدف، والرؤية، واستقراء الواقع، والاستخدام الأمثل للطاقات، والتحديد الدقيق للمراحل الزمنية، وقبل ذلك كله وجود العامل الأقوى وهو التوكل على الله، والثقة بنصره سبحانه لمن أخذ بالأسباب وأعد العدة والخطة الصحيحة لكل أموره، وعمل بكامل الثقة والإيمان والتوكل على الله، كما قال الحبيب محمد و لصاحبه الصديق في الغار: { ما ظنك باثنين الله ثالثهما}.
ولشرح الخطة، لنبدأ أولاً: بالهدف منها، فقد وضع الرسول هدفاً واضحاً له في هذه الرحلة وهو الوصول للمدينة المنورة والإفلات من أيدي المشركين الذين عزموا على قتله، وأعدوا لذلك خطة محكمة لتفريق دمه بين القبائل، وربما يكون هذا الهدف مستحيلاً عند كثير من الناس، فكيف سيفلت رجل من ملاحقة المئات من عناصر المتابعة والقنص والتتبع، مع وجود جائزة كبيرة تعادل مئات الآلاف في زماننا الحالي، وهي مئة بعير... إنها بحق جائزة مغرية.
ولكن التخطيط الجيد هو من ساهم في نجاح الرحلة، لأن التخطيط للهجرة كان على أعلى مستوى من الدقة والموضوعية، مع إضافة الطموح والتوكل على الله تعالى واليقين بنصره.
أما جانب استقراء الواقع فتمثل في البحث عن أفضل من يشارك في الخطة فلم يجد الرسول أحداً أفضل من صاحبه الصديق لما يتمتع به من صدق وإخلاص، ولم يجد أيضاً أفضل من أهل بيته وأولاده وعبده ليكونوا على علم بالخطة السرية ومشاركين فيها.
أما الجانب الذي يعجب منه البعض، فهو اعتماده على رجل مشرك ليكون مرشداً ليدله على الطريق الأفضل الموصل للمدينة المنورة، مع أن سيدنا أبا بكر الصديق كان عالماً بالطرق فهو تاجر خَبِر طرق المدينة، ولكن الرسول كان يريد الاستعانة بأخبَر منه في هذا المجال، حتى يضمن إيجاد أفضل الحلول والطرق في حال وقوع أحداث مفاجئة على الخطة، فكان أحد المساهمين في الخطة رجلاً مشركاً لا يدين بالولاء للرسول أو دينه، ولكنه شخص متخصص موثوق، سيقوم بالمهمة بحيادية تامة ومهنية كبيرة، وهذا كاف جداً لإنجاح الخطة، فقد أثبتت دراسة الواقع أنه خير من يقوم بتلك المهمة لأسباب موضوعية وواقعية، فكان من الحكمة الاستعانة به، ونفهم من هذا دروساً كبيرة تعبر عن عقلية إبداعية للرسول صلى الله عليه وسلم.
أما التحديد الدقيق للمراحل الزمنية: فقد كانت واضحة في خطته صلى الله عليه وسلم، حيث حدّد موعد الخروج من البيت، وموعد التقائه بسيدنا أبي بكر، وموعد تغيير مسار الرحلة من الشمال للجنوب للتمويه، وبعدها الاختباء لمدة ثلاثة أيام في غار ثور، و الاتجاه إلى المدينة بطريق أخرى غير مستخدمة للمسافرين، إن هذا المخطط الزمني تم تنفيذه بدقة ونجاح.
وسارت الهجرة النبوية وفقاً للخطة الموضوعة التي تابعت أدق التفاصيل كتأمين الغذاء والمعلومات الاستخباراتية وأساليب التمويه، فقد كان عامر بن فهيرة مولى سيدنا أبي بكر، يسير بالغنم خلف آثار خف الناقة التي تحمل النبي وصاحبه لكي يضيع الأثر ولا يمكن تتبعه، كما أن عبد الله بن أبي بكر الصديق تولى إيصال المعلومات عن الأعداء وتحركاتهم، كما قامت أسماء بنت أبي بكر بتأمين الإمداد الغذائي بنقلها للماء والطعام للرسول وصاحبه أثناء وجودهم في غار ثور.
وسارت الرحلة ميممة شطر المدينة المنورة، وقابلتها الكثير من المفاجآت التي تعامل معها الرسول صلى الله عليه وسلم بكل حكمة وحزم وذكاء، كما كان من أمر سراقة بن مالك، الرجل الداهية الذي استطاع بقوة ملاحظته اللحاق بالرسول صلى الله عليه وسلم ومحاولة إفساده للخطة، فوعده الرسول بجائزة تفوق الجائزة التي رصدتها قريش، فقد وعده بأغلى ما عُرف في ذلك الزمان من مجوهرات، وهي سواري كسرى ملك الفرس أغنى أغنياء زمانه ، ورضي سراقة بذلك لتعود الرحلة بعد ذلك فتصل إلى هدفها ويزول الخطر.
فنستخلص عبرة واضحة من قصة الهجرة النبوية أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد عرف التخطيط وأتقن أساليبه واستخدمه في كل مراحل حياته، فنجح بذلك في صناعة أمة قوية في خلال مدةٍ لا تتجاوز الخمس والعشرين سنة، فهل يا ترى ستكون لنا خطة للنهوض بأمتنا وأنفسنا من الواقع الذي وصلنا إليه.
وليكن كل فرد واثقاً أن النصر يبدأ من عنده، فلو كنا أفراداً ناجحين مخططين لحياتنا، فإننا سنُكوِّن بلا شك أمة ناجحة رائدة تستحق أن تكون خير أمة أخرجت للناس.
لقد كان الجهد البشري في التخطيط للهجرة في القمة ، ويكفي أن نلحظه من خلال الآتي:
1- تهيئة الركب :
منذ أن فاتح أبو بكر رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرغبة في الهجرة ، كانت الإشارة النبوية: (.. على رسلك فإني أرجو أن يؤذن لي ) فحبس أبو بكر نفسه على صحبة الرسول عليه الصلاة والسلام، وإن لم يفاتح صراحة بذلك ، لكن الرغبة النبوية الكريمة بتأخير هجرة أبي بكر تعني ذلك.
2- شراء البعيرين وعلفهما :
ومن تمام الخطة تهيئة وسائل الهجرة وأهمها البعيران للركوب ، وقد بقيا منذ أن أشار الرسول صلى الله عليه وسلم برجائه ربه ، أن يأذن له حتى تمت الهجرة، أربعة أشهر (وعلف راحلتين كانتا عنده، ورق السمر أربعة أشهر) وفي ذلك الغاية في الاستعداد والتهيؤ لهذه الهجرة النبوية الكريمة .
3- جاء صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر في نحر الظهيرة :
فاختيار الوقت غير المطروق الذي يأوي فيه الناس إلى بيوتهم هرباً من حر الظهيرة ، هو اختيار بتخطيط محكم، حيث لا يرى أحد رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعة انطلاقه للهجرة، ويحافظ على الكتمان التام فيه .
4- مجيئه مقنعاً :
وجاء عليه الصلاة والسلام في نحر الظهيرة مقنعاً قد أخفى وجهه ، بحيث لو أن بعض الناس رأى ذلك الرجل فلا يمكن أن يعرف وقد تقنع بثوبه .
5- الأمر بإخراج الناس من البيت :
محافظة على الكتمان كذلك وليحرص أبو بكر رضي الله عنه على أن لا يسمع أحد بما يريد .
6- تهيئة الزاد :
فمجرد أن عرف الصديق الهجرة والصحبة كان كل شيء معداً في وقته المناسب ، فالراحلتان على أتم الجاهزية، وكانت أسماء رضي الله عنها على مستوى القضية . فهيأت الزاد المناسب ، لأن الرحلة ستتم في التو واللحظة ولن تتأخر ، وعندما لم تجد ما تربط به الطعام بادرت بذكائها وشقت نطاقها قسمين كان أحدهما وكاء للطعام .
7- الخروج من خوخة أبي بكر :
فلم يكن الخروج من الباب العادي الذي يخرج منه آل أبي بكر لاحتمالات المراقبة من العدو، إنما كان من مخرج احتياطي .
8- كتمان الأمر :
وحصر أمر الهجرة تحديداً بآل أبي بكر لمشاركتهم في الإعداد للهجرة ، وهم عائشة وأسماء ، وأم رومان ، وعبدالله بن أبي بكر، وبعلي بن أبي طالب ، حتى لا يتسرب الأمر ، وكل واحد من هؤلاء له دور ما في عملية الهجرة .
9- الخروج إلى الغار :
ولم تكن الهجرة مباشرة ، إنما كان القرار النبوي العظيم ابتداء بالذهاب إلى غار ثور للإقامة به ، وقد حدد عليه الصلاة والسلام ثلاثة أيام للاختباء فيه ، حتى يهدأ الطلب في مكة ، وتكف عن الملاحقة لقناعتها أنها عاجزة عن اللحاق به .
10- عبدالله يتلقط الأخبار :
وكان دوره واضحاً ومحدداً هو أن يمضي سحابة يومه يستمع لأخبار قريش وقراراتها ، والخطط المناسبة للحيلولة دون الهجرة ، وإبلاغها للقيادة النبوية حيث يتصرف عليه الصلاة والسلام بما يحبط هذه الخطط ، ويدمر هذا الكيد ، وكان اختيار عبدالله لهذه المهمة عن قصد فكما وصفته عائشة رضي الله عنه أنه شاب لقن فطن.
11- عارم بن فهيرة يعفو على الأثر:
وقدوم عبدالله بن أبي بكر رضي الله عنه إلى الغار ، قد هيئ عامر رضي الله عنه والغنم لإعفاء أثره بعد عودته من الغار بحيث لا يستطيع العدو أن يتابع الأثر ، ويصل إلى موقع الصاحبين فيه .
12- ابن فهيرة وغنمه للزاد كذلك :
كما تقول رواية ابن اسحاق (فاحتلبا وذبحا) حتى تبقى الأمور بمنتهى السرية ، ويمكن للواحد أن يحمل أكثر من مهمة في هذه العملية حفاظاً على التكتم التام فيها ، وخوفاً من دخول عناصر جديدة ، قد تفسد خطة العملية.
13- رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يبيت على فراشه :
ولعل هذا الأمر كان ليلة اتجاه النبي صلى الله عليه وسلم للغار ، حيث قد أحكم القوم أمرهم وقرروا قتل النبي صلى الله عليه وسلم بقرار قرشي شامل تحمل كل قريش مسؤوليته .
14- مبيت علي رضي الله عنه في الفراش :
ومن إحكام الخطة ودقتها وذكائها كذلك إيهام قريش أن النبي صلى الله عليه وسلم راقد في فراشه، فلم يترك الفراش خالياً ، حتى لا تبعث مكة رسلها في طلب النبي صلى الله عليه وسلم ، ويكون قد مضى حيث يريد وهم آمنون مطمئنون ينتظرون انبلاج الصباح لينقضوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسيوف .
15- اختيار الدليل المناسب :
فلا بد من خبير في الطريق ، ولو كان هذا الخبير غير مسلم ، إن كان موطن الثقة وأهلاً للمسؤولية ، واختيار أبي بكر رضي الله عنه لابن أريقط ، لم يكن ليتم لولا الثقة التامة به، وباستعداده لتنفيذ المخطط كاملاً دون حرج .
إن ابن أريقط كان قادراً على تسليم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر للمشركين ، حيث كان الموعد المقرر له معهما ومع راحلتهما ، وإحباط مخطط الهجرة كله . لكنه كان موطن الثقة ، مثل عنصر العباس بن عبدالمطلب رضي الله عنه وحضوره أخطر بيعة في التاريخ النبوي .
16- اختيار طريق الساحل :
وهذا من عظمة التخطيط النبوي كذلك حيث أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يمض من الطريق المعتاد ، الذي تمضي منه القوافل الذاهبة والغادية من الشام وإليها ، إنما اختار طريقاً آخر، قد يكون أقصر من الطريق العادي، ومن أجل هذا احتاج الركب إلى الدليل الخبير في مجاهل الطرق ومساربها .
17- الهادي على الطريق :
وتحسباً لأي طارئ ، وعندما كان الصاحبان يلتقيان مع أحد على الطريق ، وأبو بكر معروف لكثرة تردده على الطريق للتجارة ، كان يسأل عمن معه فيجيب : هذا الرجل يهديني السبيل. وصدق رضي الله عنه فهو عنى فضل النبي صلى الله عليه وسلم في هدايته سبل الرشاد ويحسب الرجل العادي أن محمداً صلى الله عليه وسلم هو خبير الطريق ودليله .
فلا يقع الكذب ، وتقع التورية ، ويتم الكتمان التام على الأمر حرصاً على إنجاحه.
18- حيلة أسماء في المال :
حيث كانت تخشى من جدها أبي قحافة الذي لم يكن قد أسلم ، فهيأت الحجارة في الكوة وأخذت بيد جدها الضرير ، وألقت بثوب على الحجارة ، وتحسس أبو قحافة على الحجارة فحسبها دنانير ودراهم ، فاطمأن باله، وسكت على الأمر ، طالما أن أهل أبي بكر في أمان (لا والله ما ترك لنا شيئاً ، ولكن أردت أن أسكن الشيخ بذلك) .
لقد كان التخطيط البشري إذن على أعلى مستوى يملكه البشر في هذا المجال، ومع ذلك فقد وقعت الحادثتان المشهورتان ، كان يمكن أن يكون بهما إحباط الخطة ، وإنهاء الجماعة المسلمة في الأرض، كما كان أبو بكر رضي الله عنه يتحسب (فجعل يمشي ساعة بين يديه ، وساعة خلفه ، حتى فطن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ( يا أبا بكر مالك تمشي ساعة خلفي وساعة بين يدي؟) فقال : يا رسول الله أذكر الطلب فأمشي خلفك، وأذكر الرصد فأمشي بين يديك ، فقال : ( يا أبا بكر لو كان شيء لأحببت أن يكون بك دوني؟) قال:نعم)(2): (إن قتلت فإنما أنا رجل واحد ، وإن قتلت أنت هلكت الأمة)(3).
وكانت الحادثة الأولى : وصول المشركين للغار ، كما ذكرنا في الصحيح (لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا ، فقال (يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟) ) .
لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في حالة من الأمن والطمأنينة ، لم يصل إليها بشر في الأرض ، وهو يرى نفسه بين يدي عدوه، لا يحول بينهما إلا التفاتة واحدة. وعندما تُجْمِع قوى الأرض على حرب محمد صلى الله عليه وسلم ، فالله تعالى ناصره ، وهو في الغار وبين يدي العدو.
﴿ إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا ، فأنزل الله سكينته عليه ، وأيده بجنود لم تروها ، وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا ، والله عزيز حكيم ﴾ ( سورة التوبة : 40) .
لقد كان دخول الغار ذروة نصر الله تعالى في حماية عبده من عدوه حين تطبق مكة كلها على قتله ، وتصل إلى قاب قوسين أو أدنى من ذلك ، فيصرف الله البصر عن النظر حتى إلى ما تحت القدمين ، ويصد الجحفل الجرار المتلمظ للقتل، بأضعف جنود الله في الأرض .. بالعنكبوت .
فعن ابن عباس في قوله تعالى: ﴿ وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك .. ﴾ ( سورة الأنفال : 30) قال:
(تشاورت قريش ليلة بمكة فقال بعضهم : إذا أصبح فأثبتوه بالوثائق ـ يريدون النبي صلى الله عليه وسلم وقال بعضهم ـ بل اقتلوه وقال بعضهم: بل أخرجوه. فأطلع الله نبيه صلى الله عليه وسلم على ذلك فبات علي على فراش النبي صلى الله عليه وسلم تلك الليلة ، فلما أصبحوا ثاروا عليه ، فلما رأوا علياً رد الله عليهم مكرهم ، فقالوا : أين صاحبك هذا؟ فقال: لا أدري: فاقتفوا أثره. فلما بلغوا الجبل اختلط عليهم فصعدوا الجبل فمروا بالغار، فرأوا على بابه نسج العنكبوت، فقالوا: لو دخل هاهنا أحد لم يكن نسيج العنكبوت على بابه ، فمكث فيه ثلاث ليال)(4).
وصدق الشاعر إذ يقول :
نسج داود ما حمى صاحب الغار وكان الفخار للعنكبوت
وكانت الحادثة الثانية ، يوم أدركهم سراقة بن مالك ، فساخت قوائم فرسه في الأرض حتى أيقن بالهلاك هو وفرسه ، فطلب منهم الأمان لنفسه ، وكان هو النصر الثاني لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن كان العدو الألد . (فكان أول النهار جاهداً على نبي الله صلى الله عليه وسلم وكان آخر النهار مسلحة(5) له)(6) .
وما أحوجنا إلى وقفة مستأنية أمام هذه الصور :
إن كثيراً من الدعاة في عصرنا الحاضر ـ على صدق نياتهم وسلامة قلوبهم ـ حين يرون المحن تترى عليهم والتمكين يفوتهم , يعيدون الأسباب دوماً لأقدار الله، في قوة أعدائهم ، وإلى سنة الله في الدعوات والتمحيص فيها، وهم يتحدثون عن جانب من الحقيقة ، ويغفلون عن جانب مهم آخر .
إنهم لا يراجعون مسيرهم أبداً وكأنما هم لا يخطئون ، ولا يقفون وقفة مراجعة لأعمالهم ، وكأنما هم لا يقصرون ، والمسؤولية دائماً على غيرهم ، ولو ذكروا بالخطأ الذي وقعوا به ، أو التقصير الذي قاد للمحنة ، لالتمسوا المعاذير ، وتمسكوا بالتبريرات الواهية ليدفعوا عنهم هذا الخطأ والتقصير .
وإذا حوصروا بنقص الإعداد والتخطيط , أو ووجهوا بالتسرع قبل الأوان ، للجؤوا إلى باب التوكل على الله، وأنه لا ضرورة لهذا الإعداد ، أو لا حرج في هذا التسرع .
إننا يوم نقف هذا الموقف ، وتتمثل بنا الهزيمة تلو الهزيمة ، ونعيد الأسباب دائماً لقوة أعدائنا وتكالبهم علينا ، وأن الهزيمة التي تنزل بنا لا تقع لنقص في التخطيط، أو نقص في الإعداد ، أو تسرع في الخطأ .
نكون نحن الخارجين على منهج الله تعالى ، ويكون توكلنا على الله تعالى الذي ينصر ح!!!ه ويعز جنده ليس هو التوكل الصحيح الذي أمرنا الله تعالى به ، ودعانا إليه.
فإمام المتوكلين على الله تعالى ، وأتقاهم لله ، وأخشاهم له ، كان توكله على الله بعد أن أعد كل الأسباب التي يملكها في عالم البشر ، ومن أجل الهجرة رأينا الإعداد يمتد شهوراً ، حتى أذن الله تعالى بذلك وهاجر .
وحين أدى ما يملكه في عالم الأسباب ، ووقعت المحنة في شيء خارج عن طاقته وقدرته ، كانت ثقته بالله لا تحد ، وتدخلت المعجزة الربانية مرتين ، فحمته بأضعف خلق الله من الجبارين والطغاة في المرة الأولى ، وكان نصر الله تعالى في الغار ، بجنود لم نرها ، وأضعف جند الله قادر على تحطيم مخططات أعداء الله.
وتحول الفارس الفاتك بعد أن رأى هلاكه أمامه إلى صديق في المرة الثانية ، يصد كل محاولات الوصول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومن حيث كان الخطر الأكبر ، صار الأمن الأكبر .
( ولما رجع سراقة جعل لا يلقى أحداً من الطلب إلا رده ، وقال: كفيتم هذا الوجه ، فلما ظهر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وصل إلى المدينة جعل سراقة يقص على الناس ما رأى وشاهد)(7).
▲
--------------------------------------------------------------------------------
(1) - مقتبس من كتاب فقه السيرة للدكتور منير الغضبان ، بتصرف .
(2) - البيهقي في الدلائل 2/476 .
(3) - الروض الأنف للسهيلي 2/232 .
(4) - البداية والنهاية لابن كثير 3/198 . وقال : رواه الإمام أحمد ثم أتبع (وهذا إسناد حسن وهو أجود ما روي في قصة نسج العنكبوت ، وذلك من حماية الله رسوله صلى الله عليه وسلم ) .
(5) - مسلحة له : سلاحاً له يدافع عنه ويرد عنه الطلب .
(6) - من حديث رواه البخاري ك. 63 ب. 45 جـ5 ص79 .
(7) - البداية والنهاية لابن كثير 3/204 .[/color]
اولا معذرةعلى الاطالة با الكلام
ثانيا إن كان هناك اي معلومات غير صحيحة أرجو التوضيح
وشكرا صلاح حافظ
إن خطة الهجرة النبوية كانت بدون شك مستكملةً لكل أركان الخطة الحديثة، من الهدف، والرؤية، واستقراء الواقع، والاستخدام الأمثل للطاقات، والتحديد الدقيق للمراحل الزمنية، وقبل ذلك كله وجود العامل الأقوى وهو التوكل على الله، والثقة بنصره سبحانه لمن أخذ بالأسباب وأعد العدة والخطة الصحيحة لكل أموره، وعمل بكامل الثقة والإيمان والتوكل على الله، كما قال الحبيب محمد و لصاحبه الصديق في الغار: { ما ظنك باثنين الله ثالثهما}.
ولشرح الخطة، لنبدأ أولاً: بالهدف منها، فقد وضع الرسول هدفاً واضحاً له في هذه الرحلة وهو الوصول للمدينة المنورة والإفلات من أيدي المشركين الذين عزموا على قتله، وأعدوا لذلك خطة محكمة لتفريق دمه بين القبائل، وربما يكون هذا الهدف مستحيلاً عند كثير من الناس، فكيف سيفلت رجل من ملاحقة المئات من عناصر المتابعة والقنص والتتبع، مع وجود جائزة كبيرة تعادل مئات الآلاف في زماننا الحالي، وهي مئة بعير... إنها بحق جائزة مغرية.
ولكن التخطيط الجيد هو من ساهم في نجاح الرحلة، لأن التخطيط للهجرة كان على أعلى مستوى من الدقة والموضوعية، مع إضافة الطموح والتوكل على الله تعالى واليقين بنصره.
أما جانب استقراء الواقع فتمثل في البحث عن أفضل من يشارك في الخطة فلم يجد الرسول أحداً أفضل من صاحبه الصديق لما يتمتع به من صدق وإخلاص، ولم يجد أيضاً أفضل من أهل بيته وأولاده وعبده ليكونوا على علم بالخطة السرية ومشاركين فيها.
أما الجانب الذي يعجب منه البعض، فهو اعتماده على رجل مشرك ليكون مرشداً ليدله على الطريق الأفضل الموصل للمدينة المنورة، مع أن سيدنا أبا بكر الصديق كان عالماً بالطرق فهو تاجر خَبِر طرق المدينة، ولكن الرسول كان يريد الاستعانة بأخبَر منه في هذا المجال، حتى يضمن إيجاد أفضل الحلول والطرق في حال وقوع أحداث مفاجئة على الخطة، فكان أحد المساهمين في الخطة رجلاً مشركاً لا يدين بالولاء للرسول أو دينه، ولكنه شخص متخصص موثوق، سيقوم بالمهمة بحيادية تامة ومهنية كبيرة، وهذا كاف جداً لإنجاح الخطة، فقد أثبتت دراسة الواقع أنه خير من يقوم بتلك المهمة لأسباب موضوعية وواقعية، فكان من الحكمة الاستعانة به، ونفهم من هذا دروساً كبيرة تعبر عن عقلية إبداعية للرسول صلى الله عليه وسلم.
أما التحديد الدقيق للمراحل الزمنية: فقد كانت واضحة في خطته صلى الله عليه وسلم، حيث حدّد موعد الخروج من البيت، وموعد التقائه بسيدنا أبي بكر، وموعد تغيير مسار الرحلة من الشمال للجنوب للتمويه، وبعدها الاختباء لمدة ثلاثة أيام في غار ثور، و الاتجاه إلى المدينة بطريق أخرى غير مستخدمة للمسافرين، إن هذا المخطط الزمني تم تنفيذه بدقة ونجاح.
وسارت الهجرة النبوية وفقاً للخطة الموضوعة التي تابعت أدق التفاصيل كتأمين الغذاء والمعلومات الاستخباراتية وأساليب التمويه، فقد كان عامر بن فهيرة مولى سيدنا أبي بكر، يسير بالغنم خلف آثار خف الناقة التي تحمل النبي وصاحبه لكي يضيع الأثر ولا يمكن تتبعه، كما أن عبد الله بن أبي بكر الصديق تولى إيصال المعلومات عن الأعداء وتحركاتهم، كما قامت أسماء بنت أبي بكر بتأمين الإمداد الغذائي بنقلها للماء والطعام للرسول وصاحبه أثناء وجودهم في غار ثور.
وسارت الرحلة ميممة شطر المدينة المنورة، وقابلتها الكثير من المفاجآت التي تعامل معها الرسول صلى الله عليه وسلم بكل حكمة وحزم وذكاء، كما كان من أمر سراقة بن مالك، الرجل الداهية الذي استطاع بقوة ملاحظته اللحاق بالرسول صلى الله عليه وسلم ومحاولة إفساده للخطة، فوعده الرسول بجائزة تفوق الجائزة التي رصدتها قريش، فقد وعده بأغلى ما عُرف في ذلك الزمان من مجوهرات، وهي سواري كسرى ملك الفرس أغنى أغنياء زمانه ، ورضي سراقة بذلك لتعود الرحلة بعد ذلك فتصل إلى هدفها ويزول الخطر.
فنستخلص عبرة واضحة من قصة الهجرة النبوية أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد عرف التخطيط وأتقن أساليبه واستخدمه في كل مراحل حياته، فنجح بذلك في صناعة أمة قوية في خلال مدةٍ لا تتجاوز الخمس والعشرين سنة، فهل يا ترى ستكون لنا خطة للنهوض بأمتنا وأنفسنا من الواقع الذي وصلنا إليه.
وليكن كل فرد واثقاً أن النصر يبدأ من عنده، فلو كنا أفراداً ناجحين مخططين لحياتنا، فإننا سنُكوِّن بلا شك أمة ناجحة رائدة تستحق أن تكون خير أمة أخرجت للناس.
لقد كان الجهد البشري في التخطيط للهجرة في القمة ، ويكفي أن نلحظه من خلال الآتي:
1- تهيئة الركب :
منذ أن فاتح أبو بكر رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرغبة في الهجرة ، كانت الإشارة النبوية: (.. على رسلك فإني أرجو أن يؤذن لي ) فحبس أبو بكر نفسه على صحبة الرسول عليه الصلاة والسلام، وإن لم يفاتح صراحة بذلك ، لكن الرغبة النبوية الكريمة بتأخير هجرة أبي بكر تعني ذلك.
2- شراء البعيرين وعلفهما :
ومن تمام الخطة تهيئة وسائل الهجرة وأهمها البعيران للركوب ، وقد بقيا منذ أن أشار الرسول صلى الله عليه وسلم برجائه ربه ، أن يأذن له حتى تمت الهجرة، أربعة أشهر (وعلف راحلتين كانتا عنده، ورق السمر أربعة أشهر) وفي ذلك الغاية في الاستعداد والتهيؤ لهذه الهجرة النبوية الكريمة .
3- جاء صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر في نحر الظهيرة :
فاختيار الوقت غير المطروق الذي يأوي فيه الناس إلى بيوتهم هرباً من حر الظهيرة ، هو اختيار بتخطيط محكم، حيث لا يرى أحد رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعة انطلاقه للهجرة، ويحافظ على الكتمان التام فيه .
4- مجيئه مقنعاً :
وجاء عليه الصلاة والسلام في نحر الظهيرة مقنعاً قد أخفى وجهه ، بحيث لو أن بعض الناس رأى ذلك الرجل فلا يمكن أن يعرف وقد تقنع بثوبه .
5- الأمر بإخراج الناس من البيت :
محافظة على الكتمان كذلك وليحرص أبو بكر رضي الله عنه على أن لا يسمع أحد بما يريد .
6- تهيئة الزاد :
فمجرد أن عرف الصديق الهجرة والصحبة كان كل شيء معداً في وقته المناسب ، فالراحلتان على أتم الجاهزية، وكانت أسماء رضي الله عنها على مستوى القضية . فهيأت الزاد المناسب ، لأن الرحلة ستتم في التو واللحظة ولن تتأخر ، وعندما لم تجد ما تربط به الطعام بادرت بذكائها وشقت نطاقها قسمين كان أحدهما وكاء للطعام .
7- الخروج من خوخة أبي بكر :
فلم يكن الخروج من الباب العادي الذي يخرج منه آل أبي بكر لاحتمالات المراقبة من العدو، إنما كان من مخرج احتياطي .
8- كتمان الأمر :
وحصر أمر الهجرة تحديداً بآل أبي بكر لمشاركتهم في الإعداد للهجرة ، وهم عائشة وأسماء ، وأم رومان ، وعبدالله بن أبي بكر، وبعلي بن أبي طالب ، حتى لا يتسرب الأمر ، وكل واحد من هؤلاء له دور ما في عملية الهجرة .
9- الخروج إلى الغار :
ولم تكن الهجرة مباشرة ، إنما كان القرار النبوي العظيم ابتداء بالذهاب إلى غار ثور للإقامة به ، وقد حدد عليه الصلاة والسلام ثلاثة أيام للاختباء فيه ، حتى يهدأ الطلب في مكة ، وتكف عن الملاحقة لقناعتها أنها عاجزة عن اللحاق به .
10- عبدالله يتلقط الأخبار :
وكان دوره واضحاً ومحدداً هو أن يمضي سحابة يومه يستمع لأخبار قريش وقراراتها ، والخطط المناسبة للحيلولة دون الهجرة ، وإبلاغها للقيادة النبوية حيث يتصرف عليه الصلاة والسلام بما يحبط هذه الخطط ، ويدمر هذا الكيد ، وكان اختيار عبدالله لهذه المهمة عن قصد فكما وصفته عائشة رضي الله عنه أنه شاب لقن فطن.
11- عارم بن فهيرة يعفو على الأثر:
وقدوم عبدالله بن أبي بكر رضي الله عنه إلى الغار ، قد هيئ عامر رضي الله عنه والغنم لإعفاء أثره بعد عودته من الغار بحيث لا يستطيع العدو أن يتابع الأثر ، ويصل إلى موقع الصاحبين فيه .
12- ابن فهيرة وغنمه للزاد كذلك :
كما تقول رواية ابن اسحاق (فاحتلبا وذبحا) حتى تبقى الأمور بمنتهى السرية ، ويمكن للواحد أن يحمل أكثر من مهمة في هذه العملية حفاظاً على التكتم التام فيها ، وخوفاً من دخول عناصر جديدة ، قد تفسد خطة العملية.
13- رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يبيت على فراشه :
ولعل هذا الأمر كان ليلة اتجاه النبي صلى الله عليه وسلم للغار ، حيث قد أحكم القوم أمرهم وقرروا قتل النبي صلى الله عليه وسلم بقرار قرشي شامل تحمل كل قريش مسؤوليته .
14- مبيت علي رضي الله عنه في الفراش :
ومن إحكام الخطة ودقتها وذكائها كذلك إيهام قريش أن النبي صلى الله عليه وسلم راقد في فراشه، فلم يترك الفراش خالياً ، حتى لا تبعث مكة رسلها في طلب النبي صلى الله عليه وسلم ، ويكون قد مضى حيث يريد وهم آمنون مطمئنون ينتظرون انبلاج الصباح لينقضوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسيوف .
15- اختيار الدليل المناسب :
فلا بد من خبير في الطريق ، ولو كان هذا الخبير غير مسلم ، إن كان موطن الثقة وأهلاً للمسؤولية ، واختيار أبي بكر رضي الله عنه لابن أريقط ، لم يكن ليتم لولا الثقة التامة به، وباستعداده لتنفيذ المخطط كاملاً دون حرج .
إن ابن أريقط كان قادراً على تسليم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر للمشركين ، حيث كان الموعد المقرر له معهما ومع راحلتهما ، وإحباط مخطط الهجرة كله . لكنه كان موطن الثقة ، مثل عنصر العباس بن عبدالمطلب رضي الله عنه وحضوره أخطر بيعة في التاريخ النبوي .
16- اختيار طريق الساحل :
وهذا من عظمة التخطيط النبوي كذلك حيث أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يمض من الطريق المعتاد ، الذي تمضي منه القوافل الذاهبة والغادية من الشام وإليها ، إنما اختار طريقاً آخر، قد يكون أقصر من الطريق العادي، ومن أجل هذا احتاج الركب إلى الدليل الخبير في مجاهل الطرق ومساربها .
17- الهادي على الطريق :
وتحسباً لأي طارئ ، وعندما كان الصاحبان يلتقيان مع أحد على الطريق ، وأبو بكر معروف لكثرة تردده على الطريق للتجارة ، كان يسأل عمن معه فيجيب : هذا الرجل يهديني السبيل. وصدق رضي الله عنه فهو عنى فضل النبي صلى الله عليه وسلم في هدايته سبل الرشاد ويحسب الرجل العادي أن محمداً صلى الله عليه وسلم هو خبير الطريق ودليله .
فلا يقع الكذب ، وتقع التورية ، ويتم الكتمان التام على الأمر حرصاً على إنجاحه.
18- حيلة أسماء في المال :
حيث كانت تخشى من جدها أبي قحافة الذي لم يكن قد أسلم ، فهيأت الحجارة في الكوة وأخذت بيد جدها الضرير ، وألقت بثوب على الحجارة ، وتحسس أبو قحافة على الحجارة فحسبها دنانير ودراهم ، فاطمأن باله، وسكت على الأمر ، طالما أن أهل أبي بكر في أمان (لا والله ما ترك لنا شيئاً ، ولكن أردت أن أسكن الشيخ بذلك) .
لقد كان التخطيط البشري إذن على أعلى مستوى يملكه البشر في هذا المجال، ومع ذلك فقد وقعت الحادثتان المشهورتان ، كان يمكن أن يكون بهما إحباط الخطة ، وإنهاء الجماعة المسلمة في الأرض، كما كان أبو بكر رضي الله عنه يتحسب (فجعل يمشي ساعة بين يديه ، وساعة خلفه ، حتى فطن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ( يا أبا بكر مالك تمشي ساعة خلفي وساعة بين يدي؟) فقال : يا رسول الله أذكر الطلب فأمشي خلفك، وأذكر الرصد فأمشي بين يديك ، فقال : ( يا أبا بكر لو كان شيء لأحببت أن يكون بك دوني؟) قال:نعم)(2): (إن قتلت فإنما أنا رجل واحد ، وإن قتلت أنت هلكت الأمة)(3).
وكانت الحادثة الأولى : وصول المشركين للغار ، كما ذكرنا في الصحيح (لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا ، فقال (يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟) ) .
لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في حالة من الأمن والطمأنينة ، لم يصل إليها بشر في الأرض ، وهو يرى نفسه بين يدي عدوه، لا يحول بينهما إلا التفاتة واحدة. وعندما تُجْمِع قوى الأرض على حرب محمد صلى الله عليه وسلم ، فالله تعالى ناصره ، وهو في الغار وبين يدي العدو.
﴿ إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا ، فأنزل الله سكينته عليه ، وأيده بجنود لم تروها ، وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا ، والله عزيز حكيم ﴾ ( سورة التوبة : 40) .
لقد كان دخول الغار ذروة نصر الله تعالى في حماية عبده من عدوه حين تطبق مكة كلها على قتله ، وتصل إلى قاب قوسين أو أدنى من ذلك ، فيصرف الله البصر عن النظر حتى إلى ما تحت القدمين ، ويصد الجحفل الجرار المتلمظ للقتل، بأضعف جنود الله في الأرض .. بالعنكبوت .
فعن ابن عباس في قوله تعالى: ﴿ وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك .. ﴾ ( سورة الأنفال : 30) قال:
(تشاورت قريش ليلة بمكة فقال بعضهم : إذا أصبح فأثبتوه بالوثائق ـ يريدون النبي صلى الله عليه وسلم وقال بعضهم ـ بل اقتلوه وقال بعضهم: بل أخرجوه. فأطلع الله نبيه صلى الله عليه وسلم على ذلك فبات علي على فراش النبي صلى الله عليه وسلم تلك الليلة ، فلما أصبحوا ثاروا عليه ، فلما رأوا علياً رد الله عليهم مكرهم ، فقالوا : أين صاحبك هذا؟ فقال: لا أدري: فاقتفوا أثره. فلما بلغوا الجبل اختلط عليهم فصعدوا الجبل فمروا بالغار، فرأوا على بابه نسج العنكبوت، فقالوا: لو دخل هاهنا أحد لم يكن نسيج العنكبوت على بابه ، فمكث فيه ثلاث ليال)(4).
وصدق الشاعر إذ يقول :
نسج داود ما حمى صاحب الغار وكان الفخار للعنكبوت
وكانت الحادثة الثانية ، يوم أدركهم سراقة بن مالك ، فساخت قوائم فرسه في الأرض حتى أيقن بالهلاك هو وفرسه ، فطلب منهم الأمان لنفسه ، وكان هو النصر الثاني لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن كان العدو الألد . (فكان أول النهار جاهداً على نبي الله صلى الله عليه وسلم وكان آخر النهار مسلحة(5) له)(6) .
وما أحوجنا إلى وقفة مستأنية أمام هذه الصور :
إن كثيراً من الدعاة في عصرنا الحاضر ـ على صدق نياتهم وسلامة قلوبهم ـ حين يرون المحن تترى عليهم والتمكين يفوتهم , يعيدون الأسباب دوماً لأقدار الله، في قوة أعدائهم ، وإلى سنة الله في الدعوات والتمحيص فيها، وهم يتحدثون عن جانب من الحقيقة ، ويغفلون عن جانب مهم آخر .
إنهم لا يراجعون مسيرهم أبداً وكأنما هم لا يخطئون ، ولا يقفون وقفة مراجعة لأعمالهم ، وكأنما هم لا يقصرون ، والمسؤولية دائماً على غيرهم ، ولو ذكروا بالخطأ الذي وقعوا به ، أو التقصير الذي قاد للمحنة ، لالتمسوا المعاذير ، وتمسكوا بالتبريرات الواهية ليدفعوا عنهم هذا الخطأ والتقصير .
وإذا حوصروا بنقص الإعداد والتخطيط , أو ووجهوا بالتسرع قبل الأوان ، للجؤوا إلى باب التوكل على الله، وأنه لا ضرورة لهذا الإعداد ، أو لا حرج في هذا التسرع .
إننا يوم نقف هذا الموقف ، وتتمثل بنا الهزيمة تلو الهزيمة ، ونعيد الأسباب دائماً لقوة أعدائنا وتكالبهم علينا ، وأن الهزيمة التي تنزل بنا لا تقع لنقص في التخطيط، أو نقص في الإعداد ، أو تسرع في الخطأ .
نكون نحن الخارجين على منهج الله تعالى ، ويكون توكلنا على الله تعالى الذي ينصر ح!!!ه ويعز جنده ليس هو التوكل الصحيح الذي أمرنا الله تعالى به ، ودعانا إليه.
فإمام المتوكلين على الله تعالى ، وأتقاهم لله ، وأخشاهم له ، كان توكله على الله بعد أن أعد كل الأسباب التي يملكها في عالم البشر ، ومن أجل الهجرة رأينا الإعداد يمتد شهوراً ، حتى أذن الله تعالى بذلك وهاجر .
وحين أدى ما يملكه في عالم الأسباب ، ووقعت المحنة في شيء خارج عن طاقته وقدرته ، كانت ثقته بالله لا تحد ، وتدخلت المعجزة الربانية مرتين ، فحمته بأضعف خلق الله من الجبارين والطغاة في المرة الأولى ، وكان نصر الله تعالى في الغار ، بجنود لم نرها ، وأضعف جند الله قادر على تحطيم مخططات أعداء الله.
وتحول الفارس الفاتك بعد أن رأى هلاكه أمامه إلى صديق في المرة الثانية ، يصد كل محاولات الوصول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومن حيث كان الخطر الأكبر ، صار الأمن الأكبر .
( ولما رجع سراقة جعل لا يلقى أحداً من الطلب إلا رده ، وقال: كفيتم هذا الوجه ، فلما ظهر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وصل إلى المدينة جعل سراقة يقص على الناس ما رأى وشاهد)(7).
▲
--------------------------------------------------------------------------------
(1) - مقتبس من كتاب فقه السيرة للدكتور منير الغضبان ، بتصرف .
(2) - البيهقي في الدلائل 2/476 .
(3) - الروض الأنف للسهيلي 2/232 .
(4) - البداية والنهاية لابن كثير 3/198 . وقال : رواه الإمام أحمد ثم أتبع (وهذا إسناد حسن وهو أجود ما روي في قصة نسج العنكبوت ، وذلك من حماية الله رسوله صلى الله عليه وسلم ) .
(5) - مسلحة له : سلاحاً له يدافع عنه ويرد عنه الطلب .
(6) - من حديث رواه البخاري ك. 63 ب. 45 جـ5 ص79 .
(7) - البداية والنهاية لابن كثير 3/204 .[/color]