الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،
فقد أوصى الله بالوالدين، وحثَّ على برهما والإحسان إليهما، فانبرى الأنبياء والمرسلون، والأولياء الصالحون يتنافسون في البر؛ فضربوا للبشرية أروع الأمثلة، ونصبوا لهم في الإحسان أرفع الألوية، فأدهشوا العقول، وحيروا الأفهام حتى أنك لتظنه ضرباً من الخيال، وما هو كذلك، بل هو واقع شهدته الحياة.
وسوف أتركك مع بعض النماذج الواقعية من حياة سلفنا الصالح في البر، عسى أن تحرك العزائم، وتبعث الهمم، وتدفع الخلـَّف للاقتداء بالسلف:
1- سيدنا إبراهيم -عليه السلام- يدعو أباه إلى توحيد الله -تعالى- فيأبى عليه، فيترفق به أي ترفق، ويخاطبه خطاب الحليم: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا . إِذْ قَالَ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا . يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا . يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا . يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا) (مريم:41-45).
لكن أباه لم يسمع نداء العقل والحكمة، ولم يؤثر فيه خوف ابنه البار عليه، فاندفع يهدد، ويرعد وي!!!د: (أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا) (مريم:46).
فكيف قابل إبراهيم -عليه السلام- ذلك؟ قابله بلطف وحلم، ما سفـَّه عقله، وما رفع عليه صوته، وإنما بحلم من له رجاء يؤمله قال: (سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا) (مريم:47).
فأين حلم شبابنا مع آبائنا وأمهاتنا إذا خالفونا في رأي؟!
أين حلم شبابنا مع آبائنا وأمهاتنا إذا تأبوا علينا؟!
هل سندعو لهم كما دعا؟ هل سنطلب لهم العفو كما طلب؟! أم سترفع الأصوات بكلمات جاهلية تسفه الأحلام، وتجحد المعروف، وتنسبهم إلى قلة العقل والتخريف؟
2- البار يجني ثمرة بره، فالجزاء من جنس العمل، ومن برَّ بـُرَّ، وكما تدين تدان، لقد رزق إبراهيم -عليه السلام- على كبر، فلما بلغ معه السعي، واحتاج إليه ليستد وقد انحنى ظهره إليه، ابتلي فيه، رأى في المنام أنه يذبحه، فعرض الأمر عليه: (يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى)(الصافات:102)، فبم أجاب إسماعيل -عليه السلام- والده؟ قال: (قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ)(الصافات:102).
أي طاعة هذه؟! وأي بر هذا؟!
وأين نحن مما يطلب منا آباؤنا وأمهاتنا مما هو أقل من الذبح بكثير؟
3- عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (انْطَلَقَ ثَلاَثَةُ رَهْطٍ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَتَّى أَوَوُا الْمَبِيتَ إِلَى غَارٍ فَدَخَلُوهُ، فَانْحَدَرَتْ صَخْرَةٌ مِنَ الْجَبَلِ فَسَدَّتْ عَلَيْهِمُ الْغَارَ فَقَالُوا إِنَّهُ لاَ يُنْجِيكُمْ مِنْ هَذِهِ الصَّخْرَةِ إِلاَّ أَنْ تَدْعُوا اللَّهَ بِصَالِحِ أَعْمَالِكُمْ. فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمُ اللَّهُمَّ كَانَ لِي أَبَوَانِ شَيْخَانِ كَبِيرَانِ، وَكُنْتُ لاَ أَغْبِقُ قَبْلَهُمَا أَهْلاً وَلاَ مَالاً، فَنَأَى بِي فِي طَلَبِ شَيْءٍ يَوْمًا، فَلَمْ أُرِحْ عَلَيْهِمَا حَتَّى نَامَا، فَحَلَبْتُ لَهُمَا غَبُوقَهُمَا فَوَجَدْتُهُمَا نَائِمَيْنِ وَكَرِهْتُ أَنْ أَغْبِقَ قَبْلَهُمَا أَهْلاً أَوْ مَالاً، فَلَبِثْتُ وَالْقَدَحُ عَلَى يَدَىَّ أَنْتَظِرُ اسْتِيقَاظَهُمَا حَتَّى بَرَقَ الْفَجْرُ، فَاسْتَيْقَظَا فَشَرِبَا غَبُوقَهُمَا ، اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَفَرِّجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ هَذِهِ الصَّخْرَةِ، فَانْفَرَجَتْ شَيْئًا لاَ يَسْتَطِيعُونَ الْخُرُوجَ) متفق عليه.
4- قال رجل لعمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: "إن لي أمّاً بلغ منها الكبر أنها لا تقضي حاجتها إلا وظهري لها مطية، فهل أديت حقها؟ فقال عمر: لا؛ لأنها كانت تصنع بك ذلك وهي تتمنى بقاءك، وأنت تصنعه وتتمنى قراقها". الله أكبر! يحمل أمه على ظهره لتقضي حاجتها، ولم يكافئ!
5- حدث أبو بردة بن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه-: أنه شهد ابن عمر -رضي الله عنهما- رأى رجلا يمانيا يطوف بالبيت، يحمل أمه على ظهره يقول مرتجزا:
إنـي لها بـعـيرها المذلل إن أذعــرت ركــابـهـا لـم أذعـر
الله ربـي ذو الجـلال الأكـبـر
حملتـُها أكثر مما حملت فهل ترى جازيتها يا ابن عمر؟
ثم قال: يا ابن عمر: أتراني جازيتها؟ قال له: لا، ولا بزفرة واحدة.
6- أما برُّ أبي هريرة -رضي الله عنه- بأمه فمضرب الأمثال؛ فقد حدث أبو كثير السحيمي قال: حدثني أبو هريرة -رضي الله عنه- قال: (كُنْتُ أَدْعُو أُمِّي إِلَى الإِسْلاَمِ وَهِيَ مُشْرِكَةٌ فَدَعَوْتُهَا يَوْمًا فَأَسْمَعَتْنِي فِي رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مَا أَكْرَهُ فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَأَنَا أَبْكِي قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي كُنْتُ أَدْعُو أُمِّي إِلَى الإِسْلاَمِ فَتَأْبَى عَلَيَّ فَدَعَوْتُهَا الْيَوْمَ فَأَسْمَعَتْنِي فِيكَ مَا أَكْرَهُ فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يَهْدِىَ أُمَّ أَبِي هُرَيْرَةَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- اللَّهُمَّ اهْدِ أُمَّ أَبِي هُرَيْرَةَ. فَخَرَجْتُ مُسْتَبْشِرًا بِدَعْوَةِ نَبِيِّ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَلَمَّا جِئْتُ فَصِرْتُ إِلَى الْبَابِ فَإِذَا هُوَ مُجَافٌ فَسَمِعَتْ أُمِّي خَشْفَ قَدَمَيَّ فَقَالَتْ مَكَانَكَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ. وَسَمِعْتُ خَضْخَضَةَ الْمَاءِ قَالَ: -فَاغْتَسَلَتْ وَلَبِسَتْ دِرْعَهَا وَعَجِلَتْ عَنْ خِمَارِهَا فَفَتَحَتِ الْبَابَ ثُمَّ قَالَتْ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ -قَالَ-: فَرَجَعْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَأَتَيْتُهُ وَأَنَا أَبْكِي مِنَ الْفَرَحِ -قَالَ- قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَبْشِرْ قَدِ اسْتَجَابَ اللَّهُ دَعْوَتَكَ وَهَدَى أُمَّ أَبِي هُرَيْرَةَ. فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَقَالَ خَيْرًا -قَالَ- قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يُحَبِّبَنِي أَنَا وَأُمِّي إِلَى عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ وَيُحَبِّبَهُمْ إِلَيْنَا -قَالَ- فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: اللَّهُمَّ حَبِّبْ عُبَيْدَكَ هَذَا -يَعْنِي أَبَا هُرَيْرَةَ- وَأُمَّهُ إِلَى عِبَادِكَ الْمُؤْمِنِينَ وَحَبِّبْ إِلَيْهِمُ الْمُؤْمِنِينَ) (رواه مسلم).
ويروى عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه كان يشتد به الألم من الجوع، فيخرج من بيته إلى المسجد لا يخرجه إلا الجوع، فيجد نفرًا من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيقولون: يا أبا هريرة، ما أخرجك هذه الساعة؟ فقلت: ما أخرجني إلا الجوع، فقالوا: نحن والله ما أخرجنا إلا الجوع، فقمنا فدخلنا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال: "ما جاء بكم هذه الساعة"؟ فقلنا: يا رسول الله، جاء بنا الجوع، قال: "فدعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بطبق فيه تمر، فأعطى كل رجل منا تمرتين، فقال: "كلوا هاتين التمرتين، واشربوا عليهما من الماء، فإنهما ستجزيانكم يومكم هذا". قال أبو هريرة: فأكلت تمرة، وجعلت تمرة في حجرتي فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يا أبا هريرة، لم رفعت هذه التمرة"؟ فقلت: رفعتها لأمي، فقال: "كلها، فإنا سنعطيك لها تمرتين"، فأكلتها فأعطاني لها تمرتين. أخرجه ابن سعد في الطبقات.
7- عن أبي مرة مولى أم هانئ أنه ركب مع أبي هريرة -رضي الله عنه- إلى أرضه بالعقيق فإذا دخل أرضه صاح بأعلى صوته: "عليك السلام ورحمة الله وبركاته يا أمتاه. تقول: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته. يقول: رحمك الله كما ربيتني صغيرًا. فتقول: يا بني وأنت فجزاك الله خيرا ورضي عنك كما بررتني كبيرًا" (رواه البخاري في الأدب المفرد، وحسنه الألباني).
8- عَنْ أُسَيْرِ بْنِ جَابِرٍ قَالَ: كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إِذَا أَتَى عَلَيْهِ أَمْدَادُ أَهْلِ الْيَمَنِ سَأَلَهُمْ أَفِيكُمْ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ حَتَّى أَتَى عَلَى أُوَيْسٍ فَقَالَ أَنْتَ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ قَالَ: نَعَمْ . قَالَ مِنْ مُرَادٍ ثُمَّ مِنْ قَرَنٍ قَالَ نَعَمْ. قَالَ فَكَانَ بِكَ بَرَصٌ فَبَرَأْتَ مِنْهُ إِلاَّ مَوْضِعَ دِرْهَمٍ قَالَ نَعَمْ. قَالَ: لَكَ وَالِدَةٌ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: (يَأْتِي عَلَيْكُمْ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ مَعَ أَمْدَادِ أَهْلِ الْيَمَنِ مِنْ مُرَادٍ ثُمَّ مِنْ قَرَنٍ كَانَ بِهِ بَرَصٌ فَبَرَأَ مِنْهُ إِلاَّ مَوْضِعَ دِرْهَمٍ لَهُ وَالِدَةٌ هُوَ بِهَا بَرٌّ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لأَبَرَّهُ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَكَ فَافْعَلْ). فَاسْتَغْفِرْ لِي. فَاسْتَغْفَرَ لَهُ. فَقَالَ لَهُ عُمَرُ أَيْنَ تُرِيدُ قَالَ الْكُوفَةَ. قَالَ أَلاَ أَكْتُبُ لَكَ إِلَى عَامِلِهَا قَالَ أَكُونُ فِى غَبْرَاءِ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَىَّ. (رواه مسلم).
9- قيل: "إن محمد بن سيرين كان يكلم أمه كما يكلم الأمير الذي لا يـُنتصف منه"، وعن بعض آل سيرين قال: "ما رأيت محمد بن سيرين يكلم أمه قط إلا وهو يتضرع"! وعن ابن عون قال: "دخل رجل على محمد بن سيرين وهو عند أمه، فقال: ما شأن محمد أيشتكي شيئًا؟ قالوا: لا، ولكن هكذا يكون إذا كان عند أمه"!!
10- قال أبو يوسف -صاحب أبي حنيفة-: "كان أبو حنيفة يحمل والدته على حماره إلى مجلس عمر بن ذر كراهية أن يرد قولها"، وقال أبو حنيفة: "ربما ذهبت بها إلى مجلسه، وربما أمرتني أن أذهب إليه، وأسأله عن مسالة، فآتيه وأذكرها له وأقول له: إن أمي أمرتني أن أسألك عنها فيقول: وأنت تسألني عن هذا؟ فأقول: هي أمرتني فيقول: قل لي كيف -يعني الجواب- حتى أخبرك؟ فأخبره بالجواب ثم يخبرني به فآتيها، وأخبرها عنه بما قال"!
وعن يحيى بن عبد الحميد قال: "كان الإمام يخرج كل يوم من السجن، فيـُضرب ليدخل القضاء فيأبى، فلما ضرب رأسه، وأثر ذلك في وجهه بكى. فقيل له في ذلك فقال: إذا رأته أمي بكت، واغتمت، وما عليَّ شيء أشد من غم أمي"!! رحم الله الإمام أبا حنيفة.
وبعد أيها المحب:
فإننا لم نقصد الإحصاء فهذا فوق الطاقة، وإنما قصدنا أن نبين كيف كان بر سلفنا الصالح، حتى تميز بين الحق والباطل، وبين الغث والسمين، ويظهر الحق، ويزهق الباطل، إن الباطل كان زهوقا، فسر على درب سلفك، فقد أمرت بالسير خلفهم: (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ) (الأنعام:90).
www.salafvoice.com